فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القاسمي:

{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} الضمير في منهم للملائكة. لتقدم ذكرهم واقتضاء السياق، وكونه أبلغ في الرد والتهديد.
قال الزمخشري رحمه الله: وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده، وأثنى عليهم، وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية والأعمال المرضية، فاجأ بالوعيد الشديد. وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم. إن كان ذلك على سبيل الفرض والتمثيل، مع إحاطة علمه بأنه لا يكون كما قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88]، قصد بذلك تفظيع أمر الشرك، وتعظيم شأن التوحيد. انتهى.
وفي قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} إشعار بظلم من يقول تلك العظيمة. كيف لا؟ وقد استهان برتبة الإلهية وجاوز بها مقامها الأسمى.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ}.
هذا شروع في آياته الكونية، الدالة على وحدته في ألوهيته، التي عمي عنها المشركون، فلم يروها رؤية اعتبار وتدبر. ومعنى قوله: {كَانَتَا رَتْقًا} أي: لا تمطر ولا تنبت: {فَفَتَقْنَاهُمَا} أي: بالمطر والنباتات. فالفتق والرتق استعارة. ونظير قوله تعالى: {وَالسماء ذَاتِ الرَّجْعِ وَالأرض ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 11- 12]، والرجع لغة هو الماء والصدع هو النبات لأنه يصدع الأرض أي: يشقها. وقوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] وأي: كيف انفردنا في إحداثه وتهيئته ليقيم بنيته: {أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبًّا} [عبس: 25]، أي: من المزن بعد أن لم يكن: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقًّا} [عبس: 26]، أي: ثم بعد أن كانت الأرض رتقًا متماسكة الأجزاء، شققناها شقًّا مرئيًّا مشهودًا، كما تراه في الأرض بعد الريّ. أو شقًّا بالنبات.
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ: يجوز أن يراد بالفتق الإيجاد والإظهار كقوله تعالى: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرض} [الأنعام: 14]، وكقوله: {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرض الَّذِي فَطَرَهُنَّ} (56)، فأخبر عن الإيجاد بلفظ الفتق وعن الحال قبل الإيجاد بلفظ الرتق.
قال الرازيّ: وتحقيقه أن العدم نفي محض. فليس فيه ذوات مميزة وأعيان متباينة. بل كأنه أمر واحد متصل متشابه. فإذا وجدت الحقائق، فعند الوجود والتكوين يتميز بعضها عن بعض، وينفصل بعضها عن بعض. فهذا الطريق حسن جعل الرتق مجازًا عن العدم والفتق عن الوجود. انتهى.
وقال بعض علماء الفلك: معنى قوله تعالى: {كَانَتَا رَتْقًا} أي: شيئًا واحدًا.
ومعنى: {فَفَتَقْنَاهُمَا} فصلنا بعضهما عن بعض.
قال: فتدل الآية على أن الأرض خلقت كباقي الكواكب السيارة من كل وجه. أي أنها إحدى هذه السيارات. وهي مثلها في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس وتستمد النور والحرارة منها. وكونها مسكونة بحيوانات كالكواكب الأخرى. وكونها كروية الشكل. فالسيارات أو السماوات هي متماثلة من جميع الوجوه، كلها مخلوقة من مادة واحدة، وهي مادة الشمس. وعلى طريقة واحدة. كلامه.
وقد يرجح الوجه الأول في تفسير الآية لقوله تعالى بعده: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فإن ذلك مما يبين أن لسابقه تعلقًا بالماء. وعلى هذا فالرؤية في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ} بصرية. وعلى قول أبي مسلم وما بعده، علمية. على حد قوله تعالى لنبيّه صلوات الله عليه: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1]، مع أنه لم يشاهد الحادثة، بل ولد بعدها. وإنما تيقنها بالأخبار الصادقة. وكذلك ما هنا من الفتق والرتق، بمعنييه الأخيرين، مما أخبر به الحق تعالى على لسان من قامت الحجة على صدقه وعصمته. فكان مما يسهل عليهم تصديقه فعلمُه.
ومعنى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} صيّرنا كل شيء حيّ بسبب من الماء، لا يحيا دونه. فيدخل فيه النبات والشجر. لأنه من الماء صار ناميًا. وصار فيه الرطوبة والخضرة والنَّور والثمر. وإسناده الحياة إلى ظهور النبات معروف في آيات شتى. كقوله تعالى: {وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 19]، وخص بعضهم الشيء بالحيوان، لآية: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور: 45]، ولا ضرورة إليه. بل العموم أدل على القدرة، وأعظم في العبرة، وأبلغ في الخطاب، وألطف في المعنى.
وقوله تعالى: {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} إنكار لعدم إيمانهم بالله تعالى وحده، مع ظهور ما يوجبه حتمًا من الآيات الظاهرة.
{وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ} أي: جبالًا ثوابت: {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أي: لئلا تتحرك وتضطرب بهم. فلولا الجبال لكانت الأرض دائمة الاضطراب مما في جوفها من المواد الدائمة الجيشان.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} الضمير في فيها للأرض. وتكرير الفعل لاختلاف المجعولين، ولتوفية مقام الامتنان حقه. أو للرواسي لأنها المحتاجة إلى الطرق. وعلى الثاني اقتصر ابن كثير. قال: فقد يشاهد جبل هائل بين بلدين، وإذا فيه فجوة يسلك الناس فيها، رحمة منه تعالى: {وَسُبُلًا} بَدَل من: {فِجَاجًَا} أشير به إلى أنه مع السعة نافذ مسلوك، وأنه خلق ووسع لأجل السابلة، ومعنى: {يهتدون} أي: إلى مصالحهم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}.
الضمير في قوله: {مِنْهُمْ} عائد إلى الملائكة المذكورين في قوله: {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] والمعنى: أنهم مع كرامتهم على الله لو ادعى أحد منهم أن له الحق في صرف شيء من حقوق الله الخاصة به إليه لكان مشركًا، وكان جزاؤه جهنم. ومعلوم أن التعليق يصح فيما لا يمكن ولا يقع. كقوله: {قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} [الزخرف: 81] الآية، وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] والمراد بذلك تعظيم أمر الشرك. وهذا الفرض والتقدير الذي ذكره جل وعلا هنا في شأن الملائكة، ذكره أيضًا في شأن الرسل على الجميع صلوات الله وسلامه قال تعالى: {وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الزمر: 65] ولما ذكر جل وعلا من ذكر من الأنبياء في سورة الأنعام في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ} [الأنعام: 84] إلى آخر من ذكر منهم قال بعد ذلك {ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} الآية دليل قاطع على أن حقوق الله الخالصة له من جميع أنواع العبادة لا يجوز أن يصرف شيء منها لأحد ولو ملكًا مقربًا، أو نبيًّا مرسلًا. ومما يوضح ذلك قوله تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ الله ولَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إذ إنتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 79- 80]، وقوله تعالى مخاطبًا لسيِّد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَواء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 64].
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا}.
قرأ هذا الحرف عامة السبعة ما عدا ابن كثير {أو لم ير} بواو بعد الهمزة: وقرأه ابن كثير {ألم ير الذين كفروا} بدون واو، وكذلك هو في مصحف مكة. والاستفهام لتوبيخ الكفار وتقريعهم، حيث يشاهدون غيرائب صنع الله وعجائبه، ومع هذا يعبدون من دونه ما لا ينفع من عَبَده، ولا يضر من عَصَاه ولا يقدر على شيء.
وقوله: {كَانَتَا} التثنية باعتبار النوعين اللذَين هما نوع السماء، ونوع الأرض. كقوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] ونظيره قول عمر بن شيبم:
ألم يحزنك أن جبال قيس ** وتغلب قد تباينتا انقطاعا

والرتق مصدر رَتَقه رتْقًا: إذا سده. ومنه الرتقاء. وهي التي اسند فرجها، ولَكِن المصدر وصف به هنا ولذا أفرده ولم يقل كانتا رتقين. والفتق: الفصل بين الشيئين المتَّصلين. فهو ضد الرتق. ومنه قول الشاعر:
يهوون عليهم إذا يغضبو ** ن سخط العداة وإرغامها

ورتق الفتوق وفتق الرتو ** ق ونقض الأمور وإبرامها

واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالرتق والفتق في هذه الآية على خمسة أقوال، بعضها في غاية السقوط، وواحد منها تدل له قرائن من القرآن العظيم:
الأول أن معنى {كَانَتَا رَتْقًا} أي كانت السموات والأرض متلاصقة بعضها مع بعض، ففتقها الله وفصل بين السموات والأرض، فرفع السماء إلى مكانها، وأقر الأرض في مكانها، وفصل بينهما بالهواء الذي بينهما كما ترى.
القول الثاني أن السموات السبع كانت رتقًا. أي متلاصقة بعضها ببعض، ففتقها الله وجعلها سبع سموات، كل اثنتين منها بينهما فصل، والأرضون كذلك كانت رتقًا ففتقها، وجعلها سبعًا بعضها منفصل عن بعض.
القول الثالث أن معنى {كَانَتَا رَتْقًا} أن السماء كانت لا ينزل منها مطر، والأرض كانت لا ينبت فيها نبات، ففتق الله السماء بالمطر، والأرض بالنبات.
الرابع أنها {كَانَتَا رَتْقًا} أي في ظلمة لا يرى من شدتها شيء ففتقهما الله بالنور. وهذا القول في الحقيقة يرجع إلى القول الأول، والثاني.
الخامس وهو أبعدها لظهور سقوطه. أن الرتق يراد به العدم. والفتق يراد به الإيجاد. أي كانتا عدمًا فأوجدناهما. وهذا القول كما ترى.
فإذا عرفت أقوال أهل العلم في هذه الآية، فاعلم أن لاقول الثالث منها وهو كونهما كانتا رتقًا بمعنى أن السماء لا ينزل منها مطر، والأرض لا تنبت شيئًا ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات قد دلت عليه قرائن من كتاب الله تعالى.
الأولى أن قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا} يدل على أنهم رأوا ذلك.
لأن الأظهر في رأى أنها بصرية، والذي يرونه بأبصارهم هو أن السماء تكون لا ينزل منها مطر، والأرض ميتة هامدة لا نبات فيها. فيشاهدون بأبصارهم إنزال الله المطر، وإنباته به أنواع النبات.
القرينة الثانية أنه أتبع ذلك بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30]. والظاهر اتصال هذا الكلام بما قبله. أي وجعلنا من الماء الذي أنزلناه بفتقنا السماء، وأنبتنا به أنواع النبات بفتقنا الأرض كل شيء حي.
القرينة الثالثة أن هذا المعنى جاء موضحًا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى: {والسماء ذَاتِ الرجع والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 11- 12] لأن المراد بالرَّجْع نزول المطر منها تارة بعد أخرى، والمراد بالصَّدْع: انشقاق الأرض عن النبات. وكقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الماء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقًّا} [عبس: 24- 26] الآية. واختار هذا القول ابن جرير وابن عطية وغيرهما للقرائن التي ذكرنا. ويؤيد ذلك كثرة ورود الاستدلال بإنزال المطر، وإنبات النبات في القرآن العظيم على كمال قدرة الله تعالى، وعظم منته على خلقه، وقدرته على البعث. والذين قالوا: إن المراد بالرتق والفتق أنهما كانتا متلاصقتين ففتقهما الله وفصل بعضهما عن بعض قالوا في قوله: {أَوَلَمْ يَرَ} أنها من رأي العلمية لا البصرية، وقالوا: وجه تقريرهم بذلك أنه جاء في القرآن، وما جاء في القرآن فهو أمر قطعي لا سبيل للشك فيه. والعلم عند الله تعالى.
وأقرب الأقوال في ذ1لك هو ما ذكرنا دلالة القرائن القرآنية عليه، وقد قال فيه الفخر الرازي في تفسيره: ورجَّحوا هذا الوجه على سائر الوجوه بقوله بعد ذلك: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء: 30] وذلك لا يليق إلا وللماء تعلق بما تقدم، ولا يكون كذلك إلاَّ إذا كان المراد ما ذكرنا.
فإن قيل: هذا الوجه مرجوح. لأن المطر لا ينزل من السموات بل من سماء واحدة وهي سماء الدنيا.
قلنا: إنما أطلق عليه لفظ الجمع لأن كل قطعة منها سماء. كما يقال ثوب أخلاق، وبرمة أعشار اهـ منه.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الماء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ}.
الظاهر أن جَعل هنا بمعنى خَلَق. لأنها متعدية لمفعول واحد. ويدل لذلك قوله تعالى في سورة النور: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَاءٍ} [النور: 45].
واختلف العلماء في معنى خلق كل شيء من الماء. قال بعض العلماء: الماء الذي خلق منه كل شيء هو النطفة. لأن الله خلق جميع الحيوانات التي تولد عن طريق التناسل من النطف، وعلى هذا فهو من العام المخصوص.
وقال بعض العلماء: هو الماء المعروف، لأن الحيوانات إما مخلوقة منه مباشرة كبعض الحيوانات التي تتخلق من الماء. وإما غير مباشرة لأن النطف من الأغذية، والأغذية كلَّها ناشئة عن الماء، وذلك في الحبوب والثمار ونحوها ظاهر، وكذلك هو في اللحوم والألبان والأسمان ونحوها: لأنه كله ناشئ بسبب الماء.
وقال بعض أهل العلم: معنى خَلْقه كل حيوان من ماء: أنه كأنما خلقه من الماء لفرط احتياجه إليه، وقالة صبره عنه. كقوله: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] إلى غير ذلك من الأقوال. وقد قدمنا المعاني الأربعة التي تأتي لها لفظة جعل وما جاء منها في القرآن وما لم يجئ فيه في سورة النحل.
وقال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية الكريمة ما نصه: لقائل أن يقول: كيف قال وخلقنا من الماء كل حيوان؟ وقد قال: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] وجاء في الأخبار: أن الله تعالى خلق الملائكة من النور، وقال تعالى في حق عيسى عليه السلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي} [المائدة: 110]، وقال في حق آدم {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59].
والجواب: اللفظ وإن كان عامًا إلا أن القرينة المخصصة قائمة، فإن الدليل لابد وأن يكون مشاهدًا محسوسًا ليكون أقرب إلى المقصود. وبهذا الطريق تخرج عنه الملائكة والجن وآدم وقصة عيسى عليهم السلام، لأن الكفار لم يروا شيئًا من ذلك اهـ منه.
ثم قال الرازي أيضًا: اختلف المفسِّرون، فقال بعضهم: المراد من قوله: {كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} الحيوان فقط. وقال آخرون: بل يدخل فيه النبات والشجر، لأنه من الماء صار ناميًا، وصار فيه الرطوبة والخضرة، والنور والثمر. وهذا القول أليق بالمعنى المقصود، كأنه تعالى قال: ففتقنا السماء لإنزال المطر، وجعلنا منه كل شيء في الأرض من النبات وغيره حيًا. حجة القول الأول: أن النبات لا يسمى حيًا. قلنا: لا نسلم، والدليل عليه قوله تعالى: {يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] انتهى منه أيضًا.
{وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}.
قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة النحل فأغنى ذلك عن إعادته هنا. اهـ.